فوزي خضر والرحلة إلي مدائن المجهول
شاعر و قصيدة
جمع وترتيب / محمد فتحي شعبان
فوزي خضر
الرحلة إلي مدائن المجهول
والتائه
فوزي خضر : مدرس و صحفي وكاتب مصري وأخصائى مخطوطات بمكتبة الأسكندرية و مستشار بالهيئة العامة لقصور الثقافة وأستاذ جامعي .
من مواليد محافظة البحيرة جمهورية مصر العربية حاصل علي درجة الدكتوراة من جامعة الأسكندرية في الأدب العربي عام 2000.
عمل في مجال الصحافة والتدريس الجامعي والتأليف الإذاعي وكان برنامجه الشهير ( كتاب عربي علم العالم ) من أهم البرامج التي تركت بصمة في عقل المواطن العربي .
من مؤلفاته
الترحال في زمن الغربة
من سيمفونية العشق
فصل في الجحيم
مسافات الشعر
مسرحية الشيخ الرئيس
إلي غير ذلك من المؤلفات
الرحلة إلي مدائن المجهول والتائه من ديوان مدائن المجهول
تبدأ الرحلة إلى مدائن المجهول (أول قصائد الديوان) بطرح فني فذ لحالة الذات الشاعرة التي تعاني من الضياع؛ وأقول: طرح ولا أقول وصف أو توصيف لأن سمة شاعرنا التمردية تقدمه دائماً كفاعل ومتفاعل بجسده المادي؛ وليس كواصف أو راصد للتجربة من الخارج؛ وهو الأمر الذي يجعله ينتج كادرات تصويرية متحركة – سينمائية – شديدة الثراء بدراميتها وتباهي الصراع بها؛ وهو ما يفرّده عن غيره من شعراء الرفض:
وحينما بكيتُ
وجدتُ دمعي قطعاً جلدية
تنامُ فوق كفيَ الحزينة.
ثم ينفتح أفق السؤال الذي ينجز الحوار بين الذات والأم الثكلى؛ هذا الحوار الذي هو سمة حكائية يزهو بدرامية الطرح الشعري أكثر فأكثر بما يفتحه من فضاءات دلالية:
من باعني؟؟
من دارَ بي حكاية شقية المعاني؟
يا أمي الثكلى ..
ما زلت أفتش – في كهفي عينيَ –
عمن ألقى بي في البئر الطين ..
وأدلى ثعباناً كي أتعلق فيه
ما زلت أفتش .. منذ ولدتُ.
ربما من المهم التنويه إلى أهمية الانتباه لتشكيلات المكان سواء تصويرياً أو واقعياً منذ البداية وعلاقة الذات والآخر به من خلال مراقبة قاموس الشاعر على سبيل المثال في المقبوس السابق .. راقب:
دارَ بي؛ أفتش؛ كهفيَ عينيَ؛ ألقي بي في البئر الطيني؛ وهكذا ..
وصولاً للحكي:
ويوم أن وصلتُ حدَّ قريتي
سألني حارسُها: من أنتَ؟
صمتُّ ..
حينما نظرتُ في حقيبتي
فلم أجد صورتي المنمقه.
يا جبهتي المشققه
- كحقل قريتي العتيق –
يا ليلي َ الصفيق
القولُ ضيقٌ
الصمتُ ضيقٌ
والخطوة البلهاء – في الطريقِ- ضِيقْ.
يا حد قريتي العتيقْ.
ها أنذا أعاود ارتحالي إلى مدائن المجهول
- تنزف في دمي علامة ُ السؤال –
يا مدائن المجهولِ..
عن صورتي المشققهْ.
وكلما هممتُ بالرجوع
كنتُ أضمدُ السؤالَ بالسؤالِ
كي أواصل المسير.
يا حد قريتي العتيق
واصلت ألف مرَّةٍ.. وعدت
أحمل جثة رحلتي الشقيه
وحينما بكيتُ:
وجدتُ دمعي قِطعاً جلديه
تنام فوق كفيَ الحزينه.
تتباهي إذن أبجديات الرحلة من خلال هذا الحكي – كسمة نثرية يستطيع الشاعر بقدرة إبداعية فائقة تطويعها للشِعر فيُضفي بها لطرحه الشعريِّ جمالاً شاجياً من شجن الحكي الشرقي في فن (الكان وكان) ذي النكهة الأسطورية الخلابة التي تداعب الخيال، وتتعانق أبجديات الرحلة: وصلتُ؛ حقيبتي؛ المسير؛ الرجوع؛ عدتُ؛ رحلتي .. مع تشكيلات المكان: حد قريتي؛ حقل قريتي؛ مدائن المجهول .. ليخلص بنا الشاعر أو ينتهي بنا إلى حيث بدأ:
وجدت دمعي قطعاً جلدية
تنام فوق كفيَ الحزينة.
منجزاً هذه الدائرية التي تجعل من الرحلة كدوار الثور المغمى في الساقية يعاني في كبدٍ ورهق ليرفع الماء من قاع البئر إلى سطح التربة فيرويها من عطشٍ لتجود بثمرها. وكأن الغاية من الرحلة هي الرحلة ذاتها في واقع الأمر - هذا من ناحية – ومن ناحية أخرى يؤكد الإصرار كسمة من أهم سمات شاعرنا أو بحسب توصيفه لنفسه بالجواد المعاند (عنوان أحد دواوينه) هذا الإصرار الذي يتبدى في قوله المتكرر بإصرار:
يهتز التاريخُ لمن لا يهدأ
فلئن عدت إلى حيث بدأت
فابدأ ..
إبدأ..
إبدأ ..
وتذكر من باعوا وجهكَ
باللون الباهت.
لعلها سمة ُتفرّد؛ وخصوصية شعرية سكندرية أو سواحلية؛ تلك التي يمكن أن نطلق عليها قصائد الترحال أو الرحيل أو الرحلة، غير أنها دائماً – وتلك ميزتها – مغامرة سندبادية غنية بالصراعات والمدهشات لكنها هنا في رحلة شاعرنا فوزي خضر إلى مدائن المجهول؛ تتفرّد بكونها رحلة لا تهدف لوصول ما؛ حيث يبدو الذهاب كأنه طريق للعودة، أو يصير الرحيل في حد ذاته هو الهدف وليس الهدف منه الوصول. إذن؛ فالهدف قد يكون معروفا ً؛ لكن الوصول غير معروف؛ بل وغير مهم؛ فالرحيل مستمر داخل الهدف المقصود نفسه؛ وهو كما تشي به الدلالة الكلية للديوان "مدائن المجهول" بلورة أو إبراز هذه الحالة من الضياع أو القفد التانج عن تأرجح إنسان هذا العصر بين أغاريد الماضي وغموض المستقبل؛ الخوف الجاسم على صدر إنسان هذا العصر في شتي بقاع الأرض والمتمثل في صرخة شاعرنا فوزي خضر:
يا أرواح العالم .. أين بلادي؟
مفقودٌ في طرقات الليلِ
أواري في جفنيَّ أغاريدَ الماضي
وتمرُّ علىَّ تماثيلُ الملح
عيوني تجري مني
تبحثُ عن إنسانٍ
تبحثُ عن أيدٍ بيضاء تلم الأشلاء
وتبحث عن ثوبٍ لك يكمل منذ سنين ..
وتبحث عمن ينتظرون التائه وسط بحار العالم
يا أرواح العالم .. أين بلادي؟
يا صوت الرعدِ تنادي مَنْ؟
أبناؤكَ صُمْ.
هكذا تتناص التجربة الخضرية شعرياً مع أسطورة أودسيوس التائه وسط بحار العالم بحثاً عن أتيكا – ذات اليد البيضاء – أتيكا الحبيبة؛ الزوجة؛ الوطن.
من قبل رحيلي .. منذ سنين
سلمتُ عليَ
وهززتُ يديَّ ..
وقلتُ: وداعاً يا .. مسكين
مأساتي أني لم أنقل قدماً .. ورحلتُ.
نلاحظ هنا أن الشاعر قال: سلمتُ وليس سلمتِ؛ وقال: وقلتُ وداعاً، ولم يقلْ: وقلتِ وداعاً
ثم هذا التقرير أو التصريح الأشد إبداعاً في قولهِ:
مأساتي أني لم أنقل قدماً .. ورحلتُ.
الأمر الذي يجعل الرحيل مقصودا ًلذاته؛ أو للمرور علي تفاصيله ...
هذا المناخ الأسطوري الساحر؛ أو هذه الواقعية السحرية بالمصطلح النقدي المتعارف عليه من أهم سمات التجارب السكندرية أو بمعني آخر هو سمة سكندرية؛ نلمسه متباهياً خلال هذا الديوان؛ وعلى سبيل المثال لا الحصر في مثل قول شاعرنا:
أولدُ في كأس الخمرِ
وأبعثُ تحتَ الأقبيةِ الحمراءِ
يتصاعد للجنياتِ بخورٌ من كلماتي
وأُقبِّلُ خداً من طين
وأريقُ العسلَ على ثغر الجنيات
أريق الأقمار
تختلط الألوان
ويصرخ في اللحم زعيقُ الأنغام
ويفوت إلى العظم الإيقاع
وتضج الموسيقى والأرجل في رقص همجي
ثم نعود – إذا صاح الفجر- إلى المضجع
كي نحكي عن أيامٍ
راحت بالضحكات الصدق .. ونبكي صمتاً
(رجعت يا حبيبتي
رأيت في عيونك السماء
والأنبياء
وحينها .. سجدت واقفاً
مرتلاً بالعين ذكرياتي القديمة).
أو قوله:
صباح الخير يا بلقيس
بفاكهةٍ سأحضر بعد ساعاتٍ
لنأكل ..
ثم نطعم طيرنا المحبوس في الأقفاص.
أو قوله:
ومن أثينا جئت بالخمور
وجئت بالبخور من أقصى بلاد إفريقية
السوداء
طوّفتُ يا حبيبتي .. وجئتُ ...
وهكذا .. يبدو أن وعي شاعرنا د. فوزي خضر بهذه الخصوصية السكندرية كان له أكبر الأثر في اختيار هذا العنوان "مدائن المجهول".
نعود لنؤكد على أن القضية في الأول والآخر إنما هي الشعر – هذا الساحر - ولقولنا منذ بداية هذه القراءة، وكأن الشاعر شاء أن يصير هذه المدينة – الحبيبة - الذي يرحل إليها طلباً لفرادته ونفاسته؛ واستجابة لغوايته وهيمنته؛ بما في ذلك من فتنة الجمال الشعري في تجلياته اللامحدودة:
يا أمي
لو أرجع نطفه
لولدت أُغني..
وانتعلت قدماي رياحَ العالم.
وإذا كان شاعرنا د. فوزي خضر ينتمي تاريخياً للسبعينيات من القرن المنصرم؛ وتمتد جذور بداياته للستينيات؛ فإن هذا الجيل قد جاهد؛ ونجح في تجنب المباشرة والتقريرية؛ وتجاوز نهج من سبقه من الشعراء في طرحه لهمه القومي خلال خطابه الشعري لاجئا ًعادة ًإلى الرمز أو المعادل الموضوعي والذي بدا الرفض عنده في صورة شكوى وبدت الذات الشاعرة إمّا مغتربة في بلدها أو منكسرة أو محبطه وهي تتوسل أو تتسول الغد والوطن؛ أو تتشوفه عن بعد. وها هو شاعرنا يخوض فنيَّاً في سبيله مخاطر الرحيل السندبادي أو الأوديسي .. وتشيأت مصر؛ أو القيمة – الحق أو الخير أو الجمال - أو اليوتوبيا - في جل خطاباتهم على أنها الأميرة أو الملكة أو الحبيبة المعشوقة التي لا تطال أو التي دونها آلاف العراقيل والمخاطر.
وخلاصة القول عن هذا الجيل - السكندري - باختصار وأدب جم تفرضه واجبات التحضر والثقافة إنه جيل مبدع بامتياز؛ ومعلِّم بشكل مباشر وغير مباشر؛ وقد نهض بأمانته كدرع وحصن في مجاهدة المد الإستغرابي والغزو الثقافي الذي تعرضت وما زالت تتعرض له البلاد
تعليقات
إرسال تعليق